فصل: سورة التحريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (7- 12):

{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله} أي فلينفق كل من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه. {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا} فَإِنه تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وفيه تطييب لقلب المعسر ولذلك وعد له باليسر فقال: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي عاجلاً وآجلاً.
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} أهل قرية. {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ} أعرضت عنه إعراض العاتي المعاند. {فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً} بالاستقصاء والمناقشة. {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} منكراً والمراد حساب الآخرة، وعذابها والتعبير بلفظ الماضي للتحقيق.
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} عقوبة كفرها ومعاصيها. {وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} لا ربح فيه أصلاً.
{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها في قوله: {فاتقوا الله ياأولى الألباب} ويجوز أن يكون المراد بالحساب استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحف الحفظة، وبالعذاب ما أصيبوا به عاجلاً. {الذين ءامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً}.
{رَسُولاً} يعني بالذكر جبريل عليه السلام لكثرة ذكره، أو لنزوله بالذكر وهو القرآن، أو لأنه مذكور في السموات أو ذا ذكر أي شرف، أو محمداً عليه الصلاة والسلام لمواظبته على تلاوة القرآن، أو تبليغه وعبر عن إرساله بالإِنزال ترشيحاً، أو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه، وأبدل منه {رَسُولاً} للبيان أو أراد به القرآن، و{رَسُولاً}. منصوب بمقدر مثل أرسل أو ذكراً مصدر ورسولاً مفعوله أو بدله على أنه بمعنى الرسالة. {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيات الله مبينات} حال من اسم {الله} أو صفة {رَسُولاً}، والمراد ب {الذين كَفَرُواْ} في قوله: {لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الذين آمنوا بعد إنزاله أي ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح أو ليخرج من علم أو قدر أنه يؤمن {مِنَ الظلمات إِلَى النور} من الضلالة إلى الهدى. {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} وقرأ نافع وابن عامر {ندخله} بالنون. {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} فيه تعجيب وتعظيم لما رزقوا من الثواب.
{الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سموات} مبتدأ وخبر. {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض، وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر: {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن وينفذ حكمه فيهن. {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَئ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَئ عِلْمَا} علة ل {خلقَ} أو ل {يَتَنَزَّلُ}، أو مضمر يعمهما فإن كلا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم».

.سورة التحريم:

مدنية وآيها اثنتا عشرة آية.

.تفسير الآيات (1- 5):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}
{يا أيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} «روي أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في نوبة عائشة رضي الله تعالى عنها أو حفصة، فاطلعت على ذلك حفصة فعاتبته فيه فحرم مارية فنزلت وقيل شرب عسلاً عند حفصة، فواطأت عائشة سودة وصفية فقلن له إنا نشمُّ منك ريح المعافير فحرم العسل فنزلت». {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَجِكَ} تفسير ل {تُحَرّمُ} أو حال من فاعله أو استئناف لبيان الداعي إليه. {والله غَفُورٌ} لك هذه الزلة فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله. {رَّحِيمٌ} رحمك حيث لم يؤاخذك به وعاتبك محاماة على عصمتك.
{قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقَّدتهُ بالكفارة، أو الاستثناء فيها بالمشيئة حتى لا تحنث من قولهم: حلل في يمينه إذا استثنى فيها، واحتج بها من رأى التحريم مطلقاً أو تحريم المرأة يميناً، وهو ضعيف إذ لا يلزم من وجوب كفارة اليمين فيه كونه يميناً مع احتمال أنه عليه الصلاة والسلام أتى بلفظ اليمين كما قيل: {والله مولاكم} متولي أمركم {وَهُوَ العليم} بما يصلحكم {الحكيم} المتقن في أفعاله وأحكامه {وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه} يعني حفصة {حَدِيثاً} تحريم مارية أو العسل أو أن الخلافة بعده لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي فلما أخبرت حفصة عائشة رضي الله تعالى عنهما بالحديث {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} واطلع النبي عليه الصلاة والسلام على الحديث أي على إفشائه. {عَرَّفَ بَعْضَهُ} عرف الرسول صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ما فعلت. {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} عن أعلام بعض تكرماً أو جازاها على بعض بتطليقه إياها وتجاوز عن بعض، ويؤيده قراءة الكسائي بالتخفيف فإنه لا يحتمل هاهنا غيره لكن المشدد من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والمخفف بالعكس، ويؤيد الأول قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم الخبير} فإنه أوفق للإِسلام.
{إِن تَتُوبَا إِلَى الله} خطاب لحفصة وعائشة على الالتفات للمبالغة في المعاتبة. {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب من مخالصة رسول الله عليه الصلاة والسلام بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه. {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} وإن تتظاهرا عليه بما يسؤوه، وقرأ الكوفيون بالتخفيف. {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ} فلن يعدم من يظاهره من الله والملائكة وصلحاء المؤمنين، فإن الله ناصره وجبريل رئيس الكروبيين قرينه، ومن صلح من المؤمنين أتباعه وأعوانه.
{وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ} متظاهرون، وتخصيص جبريل عليه السلام لتعظيمه، والمراد بالصالح الجنس ولذلك عمم بالإِضافة وبقوله بعد ذلك تعظيم لمظاهرة الملائكة من جملة ما ينصره الله تعالى به.
{عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ} على التغليب، أو تعميم الخطاب، وليس فيه ما يدل على أنه لم يطلق حفصة وأن في النساء خيراً منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، وقرأ نافع وأبو عمرو {يُبْدِلَهُ} بالتخفيف. {مسلمات مؤمنات} مقرات مخلصات أو منقادات مصدقات. {قانتات} مصليات أو مواظبات على الطاعات. {تائبات} عن الذنوب. {عابدات} متعبدات أو متذللات لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. {سائحات} صائمات سمي الصائم سائحاً لأنه يسبح بالنهار بلا زاد، أو مهاجرات. {ثيبات وَأَبْكَاراً} وسط العاطف بينهما لتنافيهما ولأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثبيات والأبكار.

.تفسير الآيات (6- 10):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)}
{يا أيها الذين ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ} بترك المعاصي وفعل الطاعات. {وَأَهْلِيكُمْ} بالنصح والتأديب، وقرئ و{أهلوكم} عطف على واو {قُواْ}، فيكون {أَنفُسَكُمْ} أنفس القبيلين على تغليب المخاطبين. {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} ناراً تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب. {عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ} تلِي أمرها وهم الزبانية. {غِلاَظٌ شِدَادٌ} غلاظ الأقوال شداد الأفعال، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة. {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ} فيما مضى. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فيما يستقبل، أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر والتزامها ويؤدون ما يؤمرون به.
{يا أيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، والنهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم أو العذر لا ينفعهم.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} بالغة في النصح وهو صفة التائب فإنه ينصح نفسه بالتوبة، وصفت به على الإِسناد المجازي مبالغة أو في النصاحة، وهي الخياطة كأنها تنصح ما خرق الذنب. وقرأ أبو بكر بضم النون وهو مصدر بمعنى النصح كالشكر والشكور، والنصاحة كالثبات والثبوت تقديره ذات نصوح أو تنصح نصوحاً، أو توبوا نصوحاً لأنفسكم. وسئل علي رضي الله تعالى عنه عن التوبة فقال: يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تربي نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية. {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} ذكر بصيغة الأطماع جرياً على عادة الملوك، وإشعاراً بأنه تفضل والتوبة غير موجبة وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء. {يَوْمَ لاَّ يُخْزِى الله النبى} ظرف ل {يدخلكم} {والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} عطف على النبي عليه الصلاة والسلام إحماداً لهم وتعريضاً لمن ناوأهم، وقيل مبتدأ خبره: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} أي على الصراط. {يَقُولُونَ} إذا طفئ نور المنافقين. {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} وقيل تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلاً.
{يا أيها النبى جاهد الكفار} بالسيف {والمنافقين} بالحجة. {واغلظ عَلَيْهِمْ} واستعمل الخشونة فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} جهنم أو مأواهم.
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ وامرأة لُوطٍ} مَثَّلَ الله تعالى حالهم في أنهم يعاقبون بكفرهم ولا يحابون بما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النسبة بحالهما. {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين} يريد به تعظيم نوح ولوط عليهما السلام. {فَخَانَتَاهُمَا} بالنفاق. {فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً} فلم يغن النبيان عنهما بحق الزواج شيئاً إغناء ما. {وَقِيلَ} أي لهما عند موتهما أو يوم القيامة. {ادخلا النار مَعَ الداخلين} مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام.

.تفسير الآيات (11- 12):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امرأة فِرْعَوْنَ} شبه حالهم في أن وصلة الكافرين لا تضرهم بحال آسية رضي الله عنها ومنزلتها عند الله مع أنها كانت تحت أعدى أعداء الله. {إِذْ قَالَتِ} ظرف للمثل المحذوف. {رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً في الجنة} قريباً من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين. {وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} من نفسه الخبيثة وعمله السيء. {وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} من القبط التابعين له في الظلم.
{وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ} عطف على {امرأة فِرْعَوْنَ} تسلية للأرامل. {التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} من الرجال {فَنَفَخْنَا فِيهِ} في فرجها، وقرئ: {فيها} أي في {مَرْيَمَ} أو في الجملة. {مِن رُّوحِنَا} من روح خلقناه بلا توسط أصل. {وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا} بصحفه المنزلة أو بما أوحى إلى أنبيائه. {وَكِتَابِهِ} وَما كتب في اللوح المحفوظ، أو جنس الكتب المنزلة وتدل عليه قراءة البصريين وحفص بالجمع، وقرئ: {بكلمة الله وكتابه} أي بعيسى عليه السلام والإِنجيل. {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} من عداد المواظبين على الطاعة، والتذكير للتغليب والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم، أو من نسلهم فتكون {مِنْ} ابتدائية.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون: ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً».